رشقات دمٍ على إسفلت الغرباء | شهادة في الرواية

أحمد رفيق عوض

هل يمكن للسرد أن يرمّم ما ينكسر من تاريخ؟ وهل يمكن للسرد أن يصلح ما يفسد الساسة وغيرهم؟

إنّ الرواية، في نهاية الأمر، اشتباك وتأمّل وتجاوز. أقول هذا وأنا أؤمن بأنّ سردنا الروائيّ الفلسطينيّ، وبعد مئة عام من وعد بلفور، قد لحق به ما لحق بهويّتنا من ضبابيّة وغموض، وما لحق بمكاننا من تمزّق، وما لحق بوعينا من تشتّت وانكماش، إن شئتم.

سردنا الروائيّ الذي بدأ ساذجًا وبريئًا، لكنّه عالٍ وواضح، انتهى إلى أن يكون بالغ التعقيد، وبالغ البذخ، أيضًا؛ متقن لكنّه مثقل بالأسئلة والقلق والحيرة.

مئة عام من السرد الروائيّ الفلسطينيّ، الذي بدأ بهويّة عريضة ومتّسعة وفضفاضة، تتّسع للعروبة وللإسلام، انتهى بهويّات فرديّة وصغيرة، قلقة ومتوجّسة.

وعي الهويّة

ما الذي جرى ويجري، إذًا؟

سردنا الروائيّ الفلسطينيّ الذي قارب ثلاث قضايا شكّلت التحريض والنقيض معًا، أسهمت في بلورة وعي بالهوّية والمكان، ذلك أنّ الهويّات الجمعيّة يشكّلها النقيض، والطموح، والألم، إضافة إلى مشكّلات الهويّة المعروفة في علم الاجتماع والسياسة معًا.

الاحتلال الإنجليزيّ، ثمّ المشروع الصهيونيّ، ثمّ الطرد، ثمّ التنكّر والإهمال، ثمّ التنكيل والمنافي، ثمّ عمليّات التغييب والالتفاف، وإنكار المكان أو إعادة تسميته، وإنكار الهويّة الوطنيّة ومحاولة محوها أو إقصائها أو تبهيتها؛ كلّ ذلك جعل من سردنا الفلسطينيّ يولي هذه القضيّة الاهتمام الأكبر، وهي قضيّة تستدعي مقاربة العدوّ الذي تعدّد فجأة، فلم نعد نعرفه لقربه ولونه ولهجته، ولا يكتمل ذلك كلّه إلّا بالحديث عن المكان الذي تتحوّل جغرافيّته، طيلة الوقت، عبر تسميات مضحكة كلّ مرّة، بسبب ترتيبات سياسيّة تثير الضحك أكثر!

من الجمعيّ إلى الشخصيّ

كان على سردنا الروائيّ الفلسطينيّ أن يلملم كلّ ذلك ويستعيده من جديد، وأن يرتّبه ليجعل منه الصورة المثال، أو الصورة النموذج، لنقلها للأجيال من بعدنا، أو لحماية صورتنا التي نحملها عن وطننا، لا تلك الصورة التي تقدّم لنا، كلّ يوم، عن وطن يتقلّص كلّ لحظة.

وأجد نفسي مضطّرًا إلى القول إنّ السرد الروائيّ الفلسطينيّ تعدّدت مرجعيّاته وطرائقه في فهم ومقاربة كلٍّ من موضوع الهويّة، والمكان، والعدوّ، وقد اختلف في ذلك حسب المراحل التاريخيّة؛ فالروايات الفلسطينيّة، أوائل القرن الماضي (العشرين)، تختلف في مضامينها عن روايات الألفيّة الثالثة. ولا أتحدّث هنا عن التقنيّة، أو الفنّيّة، أو المستوى الجماليّ، بل أتحدّث عن المضامين التي أصابها الغبش، والقلق، والإحساس بالهزيمة في الروايات الفلسطينيّة، الآن، إذ ثمّة اختفاء لكثير من المواضيع التي كانت تشكّل لحمة الرواية الفلسطينيّة وسُداها؛ لقد اختفت المقاومة واختفى البطل، وحلّ بدلًا منهما نقد الذات. أصبحت الرواية مكانًا للانكسار والتواضع والمساءلة، وأصبحت، أيضًا، نوعًا من الخلاص الشخصيّ أكثر منها رواية جمعيّة.

هل هذا جيّد على المستوى الفنّيّ؟ ربّما، لكنّنا هنا بصدد الكلام عن إمكانيّة أن تقوم الرواية بإصلاح الكسور والانهيارات التي لحقت بالهويّة والمكان معًا.

حكايتنا المذلّة والمخجلة

مكاننا الذي يُخَرَّب أمام أعيننا ويتحوّل إلى مُزَقٍ من مناطق مخيفة، بعضها مسموح لنا المرور به، وبعضها لا يمكننا حتّى النظر إليه، وشعبنا الذي يُغَرّب في بقاع الأرض ويتحمّل اتّهامات الإرهاب، والتغيير الديموغرافيّ، والجريمة، وتخريب الاقتصاد والأمن، ويُحشر في معازل هنا، على أرضه، وهناك، في أراضٍ أخرى، مثل هذا الشعب، عندما يكتب نصوصه، فإنّني، وهذا محض رأي شخصيّ، أعتقد أنّ ذلك يشبه رشقات دمه على إسفلت الغرباء، أو على حنّاء التراب في حقولنا المنتظرة.

هذا يعني أنّ روايتنا جرحنا الكبير، هي حكايتنا المذلّة والمخجلة. إنّنا شعب مطرود ومشتّت، وإنّ دولتنا لم تقم بعد، وإنّ حرّيّتنا لم نحصل عليها بعد. بل أكثر من ذلك؛ ثمّة من يريد تعريفنا بطريقة لا تشبهنا ولا تلائمنا، وثمّة من يريد إعادة إنتاج وطننا بطريقة تسلبنا إيّاه أو تبعده عنّا. ما زلنا، وبعد مئة عام، نجاهد من أجل إثبات أنّنا موجودون، وأنّ مكاننا هو مكاننا، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ روايتنا الفنّيّة يجب أن تعبّر عن 712لحظتها وتاريخها.

العظمة في النبوءة

الروايات العظيمة ليست روايات الحاضر، بل روايات النبوءة، والروايات العظيمة ليست روايات اللا مكان واللا زمان، بل روايات المكان والزمان قطعًا.

السرد الروائيّ الفلسطينيّ، وعلى مدى مئة عام تقريبًا، راوح بين السرد العالي والمطلق، والسرد الممزّق والنسبيّ، بين وضوح الهدف والأداة والنتيجة، والاختلاف على كلّ شيء، بسبب الهزيمة التي طالت الدولة، والتي تفكّكت إلى عواملها الأوّليّة، وإلى الشعب الذي اكتشف، فجأة، أنّه عدّة جماعات وقبائل، وإلى الفرد الذي اكتشف، فجأة، أنّه كان مقموعًا ومخدوعًا ومهدورًا.

هل أحمّل الروائيّات والروائيّين مسؤوليّات ليست من اختصاصهم؟ ربّما؛ فالمثقّف، الآن، تحوّل إلى مُسْتَخْدَمٍ، أو موظّف، أو أداة، وفقد أدواره القديمة التي سُلِبَت منه بسبب تغوّل الجهاز الحكوميّ، والشركة، والسلطة، والتكنولوجيا، وعلى الرغم من ذلك، أعتقد جازمًا أنّ المثقّف لا يموت، كما هي الحرّيّة.

الرواية الفلسطينيّة، وعلى الرغم من رحلتها الطويلة، المرتبكة والمضطّربة، كانت تدفع تكلفة الصعود والهبوط الحضاريّ للإقليم كلّه.

أخيرًا، فإنّ الهويّة والمكان، هما من صنع الإنسان والإنسان، بما فيهم الروائيّون.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ بفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، يضمّ شهادات أدبيّة قُدّمت في ملتقى فلسطين الأوّل للرواية العربيّة، المنعقد في رام الله بين 7 -11 أيّار 2017، برعاية وزارة الثقافة الفلسطينيّة.

 

** روائيّ وناقد وإعلاميّ وأكاديميّ فلسطينيّ. له العديد من الأعمال الروائيّة والمسرحيّة والفكريّة. حصل على عدّة جوائز عربيّة وفلسطينيّة. تُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزيّة والإيطاليّة. من أعماله الروائيّة: 'العذراء والقرية'، و'القرمطيّ'، و'بلاد البحر'، وله أعمال مسرحيّة.